البدء في اصلاح المؤسسة العسكرية اليوم قبل الغد (1)

من يحاسب قائد الجيش وهيئة أركانه؟
ناصف صلاح الدين
في أواخر العهد الديمقراطي بدأت مظاهر الإخفاق العسكري بسلسلة من الهزائم الميدانية التي كشفت ضعف البنية القيادية للقوات المسلحة وانهيار الروح المعنوية بين صفوفها.
كانت مدينة الناصر تحت الحصار. تقرر إرسال الكتيبة 118 من كوستي لفك الحصار عنها. تحركت الكتيبة شرق النيل رغم علم الجميع بأن الطريق الشرقي مليء بالخيران التي تعرقل الحركة، بينما الطريق الغربي كان أسلم جغرافيا وإن تواجدت فيه جيوب متمردين. أمضت الكتيبة شهرين لم تقطع خلالهما سوى نهر صغير واحد، بينما كانت الناصر تصمد في انتظارها. وعندما علمت حامية الناصر أن الكتيبة قررت العودة إلى كوستي لتسلك الطريق الآخر، أدركت أن النجدة لن تصل فقررت الاستسلام لتجنب خسائر إضافية. كان هذا السقوط نتيجة مباشرة لإخفاق قيادي ميداني، إذ كانت الكتيبة مجهزة بكل الإمكانات، لكن قيادتها افتقرت للكفاءة والجرأة العملياتية.
في سبتمبر 1988 سقطت مدينة كبويتا في شرق الاستوائية بعد انسحاب الجيش، تركت وراءها كميات كبيرة من السلاح والذخيرة، من بينها دبابتان استولت عليهما الحركة الشعبية واستخدمتهما لاحقا في معارك أخرى. ولإعادة التوازن في الجبهة قررت القيادة العامة إرسال لواء الردع بكامل تجهيزاته من تسليح ومركبات، ولكن اللواء، رغم اكتمال استعداداته، بقي في جوبا عاما كاملا دون أن يتحرك لأداء مهمته، مما عمق الإحباط وسط الجنود.
أما حادثة ليريا في يناير 1989م فقد مثلت ذروة التدهور في الأداء القتالي والمعنوي. إذ أرسلت كتيبة من لواء الردع من جوبا نحو توريت، وفي الطريق واجهت مقدمتها كمينا للعدو تتقدمه دبابة من الدبابتين اللتين استولى عليهما سابقا من كبويتا. فوجئت القوة بكثافة النيران وارتبكت، فدب فيها الذعر وتفرق جنودها. ورغم أن بقية الكتيبة نجحت لاحقا في تدمير الدبابة وهزيمة الكمين، إلا أن الصدمة الأولى جعلت العديد من الجنود يفرون في كل الاتجاهات، فلجأ بعضهم إلى ليريا، وهي منطقة حصينة تحيط بها الجبال ولا يمكن دخولها إلا من ممر واحد يسهل الدفاع عنه. غير أن القوة المتمركزة في ليريا، عندما سمعت روايات الفارين المبالغ فيها عن “دبابة العدو” أصابها الذعر هي الأخرى، فاستقلت 64 ناقلة عسكرية وفرت إلى جوبا دون قتال تاركة المواقع خالية تماما. وعندما التقاهم نائب رئيس الأركان الفريق عبدالرحمن سعيد وجدهم في حالة معنوية منهارة.
أمام هذه الإخفاقات المتكررة اجتمع رئيس الوزراء الصادق المهدي بصفته القائد الاعلى للجيش ووزير الدفاع بالقيادة العامة للجيش وطرح أمامها أسباب ضعف الأداء العسكري، وفي مقدمتها أن كثيرا من القادة المكلفين بالقيادة في الميدان غير مؤهلين لمهامهم، إما لأنهم من تخصصات فنية لا تمت للقيادة القتالية بصلة، أو لأنهم من عناصر مغضوب عليها تم الزج بها في المواقع الميدانية. وأشار إلى الانهيار في المستوى القيادي الميداني، وإلى أن خطة الجيش تقتصر على الدفاع دون مبادرة أو هجوم، مما جعل العدو يملك زمام المبادرة في الزمان والمكان. كما انتقد ضعف الاستخبارات العسكرية، التي اكتفت بتحليل ما حدث بدلا من استباقه، وهاجم قصور التوجيه المعنوي الذي فشل في رفع الروح القتالية أو بيان قضية الحرب للمقاتلين.
يذكر الصادق المهدي في مذكراته التي كتبها أثناء سجنه بعد انقلاب عام 1989، والصادرة لاحقا في كتابه «الديمقراطية عائدة وراجحة»، أنه بعد عرض ملاحظاته أمام قادة الجيش ساد صمت في القاعة، قبل أن يقر الحاضرون بصحة ما طرحه وتعهدوا بدراسة أوجه القصور ووضع مقترحات لرفع كفاءة الأداء العسكري. غير أن تلك الوعود سرعان ما تبخرت إذ تجنبت القيادة العسكرية أي نقد ذاتي أو محاسبة داخلية، وفضلت التغطية على إخفاقاتها بالتذرع بنقص العتاد والانقسام السياسي في الداخل. وهكذا ترسخ منطق التبرير بدلا من الإصلاح، وظلت مكامن الخلل القيادي والميداني قائمة دون معالجة، إلى أن انتهى الأمر بالانقلاب الذي أطاح بالتجربة الديمقراطية نفسها.
في أواخر مارس 2023، حين دفعت قوات الدعم السريع بتعزيزات قوامها ثلاثون ألف مقاتل نحو الخرطوم، أعلن الجيش السوداني رفع حالة الاستعداد إلى مئة في المئة. بدا القرار على الورق استعراضا للقوة، لكنه في الواقع لم تتجاوز درجة الاستعداد ثلاثين في المئة من الطاقة القتالية.
الفريق أول محمد عثمان الحسين، رئيس الأركان، المعروف بين ضباطه بالشح والتردد في الإنفاق، رأى أن الموقف لا يستدعي رفع حالة الاستعداد إلى الدرجة القصوى. فالافتراض العدائي وفق تقارير الاستخبارات لا يتعدى محاولة انقلابية لن تتجاوز اقتحام القيادة، كما حدث في يونيو 2020 ومارس 2021 وقد تحسبت قيادة الجيش لذلك بإقامة تحصينات دفاعية “دشم” وسواتر تحولت لاحقا الى سوار خرساني سميك يحول دون اي محاولة اقتحام للقيادة العامة من قبل الدعم السريع.
رفع درجة الاستعداد يعني في الأعراف العسكرية “تكديس مؤن القتال” من ذخيرة، وقود، إمدادات غذائية، قطع غيار، كل ما تحتاجه الوحدات للبقاء في الميدان لأطول فترة ممكنة. لم يحدث شيء من ذلك. فحين اندلعت الحرب فعلا، كانت الوحدات في دارفور تقاتل وهي تعاني من نقص في الذخيرة. سقطت الفرق العسكرية للجيش في الجنينة وزالنجي، فقط لأن الذخيرة نفدت.
في نيالا، استعان العميد حسين جودات بابناء عمومته من المسيرية لكي يشتري الذخيرة من عناصر الدعم السريع نفسها ليواصل القتال ، لكن مع نفاد الذخيرة اضطر جودات إلى الانسحاب.
المشهد نفسه تكرر في قلب الخرطوم، حيث قاتلت القوات الموجودة في الإيواء العسكري والدفاع الجوي وسلاح الكيمياء والرياضة العسكرية أكثر من اثنتين وسبعين ساعة، حتى نفدت ذخيرتهم. لم يستطع الدعم السريع تجاوز منطقة عفراء مول، ولا دخول الشارع المؤدي لشقق النصر. ثم حين جفت الذخيرة انسحبوا إلى سلاح المدرعات. قاد الشهيد مقدم مأمون عبد القادر مدرعاته بنفسه لإجلاء القوة المنسحبة، بينهم الفريق عبدالخير قائد الدفاع الجوي ومحمد عبدالله الفكي قائد سلاح الكيمياء. كلهم قالوا الجملة ذاتها: “قاتلنا حتى نفدت الذخيرة.”
اليرموك سقطت لنفاد الذخيرة، وجبل أولياء كذلك. أما الضربة الكبرى فكانت شمال العاصمة، حيث بسط الدعم السريع سيطرته على مصفاة الجيلي وقري وجبال البكاش حيث مخازن التصنيع الحربي ، أي قلب المخزون الاستراتيجي للجيش السوداني: الذخائر، المدفعية، صواريخ الطيران، والراجمات. منذ اليوم الأول وضعت قوات الدعم السريع يدها على روح القوات المسلحة، على احتياطها الاستراتيجي.
كان ذلك خطأ لا يغتفر، ومسؤولية مباشرة للقائد العام عبد الفتاح البرهان وهيئة الأركان. كيف تُترك أهم مواقع الجيش بلا دفاع؟ لماذا سُمح للدعم السريع بالتمدد في مواقع كهذه دون رد؟
أما اللواء الاول آلي مدرع في الباقير فقد خرج من المعركة تماما قبل أن تبدأ ، إذ سلم قائده العميد مأمون محمد أحمد قيادة اللواء إلى الدعم السريع قبل يوم من بداية الحرب مساء 14 أبريل 2032
أما الكارثة الكبرى فكانت في تدمير الطائرات في مروي وقاعدة شيكان الجوية بالابيض.
في مروي، وقبل أسبوعين من بدء الحرب تحركت قوات الدعم السريع من الخرطوم حتى أحاطت مطار مروي. اللواء سليمان كمال قائد الفرقة 19 مروي آنذاك ، اتصل بخالد عابدين نائب رئيس هيئة الأركان يسأله: “هل هؤلاء عدو أم صديق؟” فجاءه الرد: “تعامل معهم بحكمة.” طلب الإذن لمنعهم من الدخول بالقوة، فأجابوه “تحلّى بالحكمة وضبط النفس”. حين دخلوا، لم تطلق رصاصة واحدة. بعد ساعة كانت الطائرات محترقة على الأرض – بعضها مصرية – والطيارون في الأسر.
في الأبيض، المشهد تكرر. أوامر الإقلاع والهبوط محصورة برئيس الأركان وحده. لم يسمح لأي طيار بالإقلاع رغم اقتراب العدو، إلا مقدم واحد: عمرو الجبل، الذي خالف الأوامر وأقلع بطائرته “الأنتونوف” إلى كرري، لينقذها من المصير ذاته. البقية دُمرت في مكانها.
يتحمل المسؤولية في هذا الفشل الذريع رئيس الأركان محمد عثمان الحسين وخالد عابدين النائب عمليات واللواء أحمدان محمد خير مدير فرع العمليات الحربية ، وقائد القوات الجوية أدروب ومعهم قادة الفرق في مروي والأبيض. كلهم تركوا الطائرات جاثمة تنتظر مصيرها المحتوم.
والأدهى أن سلاح الطيران كان قد طلب قبل أشهر إنشاء مخابئ تحت الأرض لحماية الطائرات، كما في قاعدة عطبرة، حيث نجت “الطائرات البيرقدار” من التدمير بفضل تلك المخابئ. لكن الطلب ظل حبيس الأدراج سبعة أشهر، رغم اكتمال كل الدراسات “تقدير ركن” حتى جاءت الطائرات المسيرة للدعم السريع ودمرت الطائرات في وادي سيدنا ومروي وبورتسودان، فأُخرج معظم سلاح الجو من المعادلة كليا.
إن جوهر الأزمة أن قيادة الجيش في السنوات الأخيرة باتت تختار خارج أي معيار مهني أو نظام مؤسسي، ويمنح الجنرالات حق اتخاذ أخطر القرارات دون رقابة أو مساءلة. فصار نقدهم خطيئة، ومحاسبتهم من المحظورات، وغالبية هؤلاء القادة – باستثناء قلة محدودة – لم يصعدوا مؤخرا بالكفاءة ولا بالاستحقاق، بل في ظل إقصاء الأكفأ وتهميش الأقدر، فتحولت القوات المسلحة إلى ضحية لمن يفترض أنهم أمناؤها وحماتها.
غياب الشفافية داخل الجيش، والتعتيم المقصود تحت ذريعة “السرية العسكرية”، حجبا عن الرأي العام حقيقة ما يجري في أعماق المؤسسة. لا أحد يعرف كيف تدار العمليات، أو كيف يعد الجنود ويسلحون، بينما يسقط أبناء الشعب بالآلاف في المعارك. هذا التعتيم منح القيادة العامة هالة زائفة من القداسة جعلتها فوق النقد والمساءلة، ودفعها إلى ممارسة أدوار سياسية لا تملك لها مؤهلات ولا خبرة.
نواصل
صحفي مهتم بالشأن العسكري
تنويه : الخبر تم جلبه من المصدر ونشره اليا في اخبار السودان كما هو رابط
المصدر من هنا
Source link
 
				


