أخبار العالم

قانون الإجراءات الجنائية الجديد في مصر

في فجر 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، داهمت قوة أمنية منزل الشاب الثلاثيني “أ.ش” بمحافظة القليوبية شمالي القاهرة، واقتادته إلى جهة غير معلومة. وبعد يومين، ظهر أمام نيابة أمن الدولة العليا، التي وجهت له اتهامات بالترويج لجماعة محظورة، ونشر أخبار كاذبة، وإساءة استخدام وسائل التواصل.

قضى الشاب عامين في الحبس الاحتياطي على ذمة القضية رقم 488 لسنة 2019، دون محاكمة، حتى أُفرج عنه في نوفمبر 2021. واليوم، وبعد أربع سنوات على خروجه، لا تزال قضيته مفتوحة، بينما يسترجع تجربته القاسية في ظل الجدل الدائر حول المادتين 112 و114 من تعديلات قانون الإجراءات الجنائية، التي أقرها البرلمان المصري في 16 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري.

غياب الدفاع ومصير مجهول

يقول الشاب الثلاثيني لـDW إن وكيل النيابة انتدب له محاميًا فور بدء التحقيق، لكن حضوره كان “شكليًا”، إذ لم يطّلع على ملف القضية، ولم يُسمح له بالحديث مع موكله، ما اعتبره “انتهاكًا لحق أصيل للمتهم ومحاميه”.

ومع إقرار تعديلات قانون الإجراءات الجنائية، يأمل الشاب ألا تبقى النصوص “حبراً على ورق”، مطالبًا بضمانات حقيقية لتفعيل بدائل الحبس الاحتياطي، وألا تُترك لتقدير الأجهزة الأمنية. ويستحضر “أ.ش” تجربته قائلاً: “كنا نحسد سجناء المخدرات، يعرفون موعد خروجهم، أما نحن فمصيرنا كان مجهولًا”.

وقد أثارت المادتان “112، و114″، جدلاً واسعًا وانقسامًا داخل مجلس النواب خلال جلسات مناقشة مشروع القانون الذي جرى إقراره نهائيًا – “للمرة الأولى” – في 29 أبريل/ نيسان الماضي، إذ تتيح الأولى حبس المتهم في جرائم معينة “دون تحديد مدة قصوى ودون اشتراط أمر قضائي مُسبب”، وهو ما يُهدد ضمانات الحرية الفردية، بينما تقتصر الثانية على ثلاثة بدائل فقط للحبس الاحتياطي.

بيان الرئاسة المصرية بشأن الحبس الاحتياطي .. خطوة للأمام أم استجابة متأخرة؟

To view this video please enable JavaScript, and consider upgrading to a web browser that supports HTML5 video

الرئيس يرد القانون والبرلمان يعيد التعديل

في 21 سبتمبر/ أيلول الماضي، رفض الرئيس عبد الفتاح السيسي التصديق على مشروع قانون الإجراءات الجنائية، وأعاده إلى البرلمان لإعادة النظر في 8 مواد أساسية، من بينها المادتان 112 و114.

ووفق بيان رسمي للرئاسة، جاء الرد بهدف “تحقيق مزيد من الضمانات المقررة لحرمة المسكن، ولحقوق المتهم أمام جهات التحقيق والمحاكمة، وزيادة بدائل الحبس الاحتياطي للحد من اللجوء إليه، وإزالة أي غموض في الصياغة يؤدي إلى تعدد التفسيرات أو وقوع مشاكل عند التطبيق على أرض الواقع…”

وخلال 25 يومًا، شكّل البرلمان لجنة خاصة من 13 نائبًا لمراجعة المواد محل الاعتراض فقط. ورغم الخلافات التي شهدتها الجلسات، والتي بلغت حد انسحاب نقيب المحامين واعتراض نصف الأعضاء على تعديل المادة 105، أُقرت التعديلات وأُعيد تمرير القانون.

نقابة المحامين: “تحريف” لمضمون المادة 105

واتهمت نقابة المحامين لجنة مناقشة تعديلات قانون الإجراءات الجنائية بـ”الالتفاف” على اعتراضات رئيس الجمهورية، وتحريف مضمون المادة 105 من المشروع الأصلي، التي تنص على “وجوب حضور المحامي مع المتهم أثناء استجوابه أو مواجهته بغيره من المتهمين أو الشهود، ووجوب دعوة المحامي لحضور التحقيق مع المتهم، فإن لم يكن للمتهم محامٍ نُدب له محامٍ من قِبل جهة التحقيق”.

وترى النقابة أن التعديلات أدخلت صياغات تتيح للمحقق استجواب المتهم أو مواجهته دون إلزام بحضور محامٍ، ما يُعد مخالفة صريحة للدستور، وتحديدًا للمادة 54 التي تنص على عدم جواز بدء التحقيق إلا بحضور محامٍ، مع ضمان المساعدة القانونية لذوي الإعاقة، وفقًا للإجراءات المقررة في القانون.

ورغم موافقة البرلمان على مقترح النائب عاطف ناصر، الذي يقصر الاستثناء من حضور المحامي على حالتين فقط: انتقال النيابة إلى المتهم في محبسه أو المستشفى عند وجود خطر على حياته وحال تعذر حضور المحامي، فإن نقيب المحامين عبد الحليم علام رفض هذه الصياغة، مؤكدًا ضرورة التمسك بعدم وجود أي استثناء للتحقيق مع المتهم دون وجود محاميه.

نقابة المحامين تهدد بالطعن والحكومة تدافع

وأكد نقيب المحامين، عبد الحليم علّام في حديث لـDW، أن أي استثناء يسمح بالتحقيق مع المتهم دون حضور محاميه يُعد مخالفة صريحة للدستور، مشيرًا إلى أن اعتراض الرئيس عبد الفتاح السيسي على المادة 105 وعدد من المواد الأخرى “جاء بهدف تعزيز الضمانات القانونية للمواطنين، وليس الاستثناءات”.

وفي تعليقه على تمرير البرلمان للمادة 105 المثيرة للجدل رغم اعتراض النقابة، أوضح علّام أن القانون سيُعرض مجددًا على رئيس الجمهورية للتصديق عليه، وفي حال إقراره بصيغته الحالية، ستتجه النقابة للطعن بعدم دستورية المادة 105 أمام القضاء، معتبرًا أنها “تضلل الرأي العام، وتنتقص من عدالة الإجراءات وتخالف نصوص الدستور”. 

وفي المقابل، رفض المستشار محمود فوزي، وزير الشؤون النيابية والقانونية والتواصل السياسي، هذه الاتهامات، مؤكدًا أن مشروع القانون يتفق مع الدستور وصحيح القانون. وخلال جلسة البرلمان في 16 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، شدد فوزي على أن التعديلات تتسق مع حقوق الإنسان والتزامات مصر الدولية وتمثل خطوة مهمة نحو تعزيز سيادة القانون وتحقيق العدالة والمساواة بين المواطنين.

محام حقوقي: المادة 105 تُفرغ المحاماة من مضمونها

في نظر المحامي الحقوقي خالد المصري، فإن مشروع قانون الإجراءات الجنائية في مُجمله “سيء” ولا يُحقق العدالة أو يصون حقوق الناس والدفاع، تزامنًا مع توسيعه السلطات الأمنية على حساب المواطنين.

ويشير المصري، في حديث خاص لـ DW، إلى أن اعتراضات الرئيس على القانون وتعديلاته تحتاج من 6 أشهر إلى سنة مناقشات ومباحثات داخل مجلس النواب حتى تخرج بشكلٍ مُرضٍ، إلا أن إقراره بهذا الشكل وفي هذا التوقيت القصير يُكبل المجتمع ويؤذي مواطنيه ويسلب حقوقهم ويضرهم بشكل كامل.

وعن جدل المادة “105” التي يعترض عليها المحامون، يلفت المصري، إلى أنها تسلب روح مهنة المحاماة ورسالتها، “لكن الضرر الأكبر يقع على المواطن نفسه”.

نقابة الصحفيين: القانون يُهدد حرية التغطية الصحفية

أما نقابة الصحفيين، فترى في مشروع القانون تأثيرًا على مهنة الصحافة مع إصرار البرلمان على إقرار المادتين (15، و266)، حيث تجيز الأولى – بحسب بيان للصحفيين – لمحكمة الجنايات بدرجتيها أو محكمة النقض إقامة دعاوى جنائية ضد المتهمين بارتكاب “أفعال خارج الجلسة من شأنها الإخلال بأوامرها أو بالاحترام الواجب لها، أو التأثير في قضائها، أو في الشهود”، الأمر الذي من شأنه “توسيع سلطات المحكمة لتشمل المجال العام كله، ما قد يمتد إلى المناقشات الإعلامية ومنشورات مواقع التواصل الاجتماعي”. 

أما المادة (266) من مشروع القانون الجديد فتنص على أنه: “لا يجوز نقل وقائع الجلسات أو بثّها بأي طريقة كانت إلّا بموافقة كتابية من رئيس الدائرة بعد أخذ رأي النيابة العامة”، ما يجعلها – وفق الصحفيين – تجعل القاعدة “عدم تغطية الجلسات بدلاً من اعتبارها استثناء في حالات محددة”.

وفي مؤتمر صحفي سابق نظمته النقابة (12 أيلول/ سبتمبر) من العام الماضي، وصف نقيب الصحفيين خالد البلشي، القانون في مُجمله بـ “الكارثي”، داعيًا إلى حوار مجتمعي حوله يضم جميع الأطراف. كما كشف البلشي، عن اعتراض النقابة على (41 مادة) من القانون لأنها “مُخالفة للدستور”، بينما جرى توسيع هذه الاعتراضات لاحقًا بعد رده من الرئيس السيسي في (أيلول/ سبتمبر) الماضي، إلى “54” مادة تتعلق بالحقوق والحريات.

“المتضرر هو المواطن” وإشادة بإدخال التقنية

بدورها، تقول إيمان عوف، رئيسة لجنة الحريات بنقابة الصحفيين المصرية، في حديثها لـ DW، إن مذكرة اعتراضات الرئيس السيسي على “ثمان” مواد من القانون، نصت على “جواز إضافة أو حذف اعتراضات أخرى”، أي أنه فتح الباب أمام البرلمان للاستجابة لجميع الاعتراضات الأخرى، وهو أمر لم يحدث باقتصار مناقشة البرلمان على المواد الثمانية فقط.

وبحسب “عوف” فإن المُتضرر الحقيقي من مشروع قانون الإجراءات الجنائية في صورته التي أقرها البرلمان هو المواطن، لاسيما من لديهم مخالفات جنائية وليست سياسية، مُشددة على تضامن “الصحفيين” مع “المحاميين” بشكل كامل في اعتراضاتهم وتحديدًا “المادة 105” التي تعد إخلالًا حقيقيًا بحق الدفاع، وتضرب قاعدة انتداب محامِ وتتيح التحقيق مع المتهم دون وجود محاميه.

وبينما تُشيد “عوف” باستحداثات مشروع القانون لاسيما “إدخال التقنيات” واستخدام الوسائل الإلكترونية والتكنولوجيا الحديثة في البلاغات المتعلقة بالعنف الجسدي، وفي خطوات التقاضي، إلا أنها تُشدد على أهمية وجود “ضمانات” حقيقية عند التنفيذ أهمها وجود مُحامِ. مع ضرورة ضبط وإحكام المفاهيم “الفضفاضة” التي تتعلق بالأمن القومي، حتى يكون القانون متفقًا مع الاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها مصر.

تخوفات داخلية وخارجية تصل إلى الأمم المتحدة 

منذ موافقة الحكومة المصرية على مشروع القانون واعتباره مُقدمًا منها في 22 أغسطس/ آب 2024، والذي بدوره يلغي قانون الإجراءات الجنائية المعمول به حاليًا “رقم 150 لسنة 1950” وتعديلاته المختلفة، توالت الملاحظات والاعتراضات من أحزاب سياسية ومراكز وجمعيات حقوقية داخلية وخارجية حوله.

وفي 18 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، أي بعد يومين من إقرار البرلمان نهائيًا لتعديلات مشروع القانون، التي اعترض عليها الرئيس، أصدرت 25 مؤسسة وحزبًا وجمعية حقوقية ومدنية من بينهم حزبي الشعب والكرامة والمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، بيانًا تُطالب فيه الرئيس عبدالفتاح السيسي بعدم التصديق على مشروع القانون وإحالته لمجلس الشيوخ في فصله التشريعي الثاني لإعداد تقريره بشأنه؛ استعدادًا لإعادته مرة ثانية إلى مجلس النواب في دور انعقاده الجديد؛ للنظر فيه بشكل كامل “احترامًا لحقوق الإنسان ولعدالة مُنصفة”.

وفي هذا السياق، أصدر مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، بيانًا في مايو/ أيار الماضي، دعا خلاله الرئيس السيسي إلى النظر بعناية في مشروع قانون الإجراءات الجنائية قبل منحه أي موافقة؛ لضمان امتثاله التام لالتزامات مصر الدولية في مجال حقوق الإنسان، على أساس أن المقترح ذاته قد منح المدّعين العامين سلطات تقديرية واسعة النطاق، وشموله على تدابير تؤثر سلبًا على الحق في التمثيل القانوني الفعال.

وسبق وأن قدم مقررو الأمم المتحدة، ملاحظات إلى الحكومة المصرية بشأن مشروع القانون استهلت بتأكيدهم تصديق مصر في 14 يناير/ كانون الثاني 1982 على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (ICCPR)، الذي يتضمن معايير دولية بشأن الحق في محاكمة عادلة واستقلال القضاء، لاسيما الحق في الحرية والأمن وحظر الاحتجاز التعسفي، والحق في محاكمة عادلة، والحق في الخصوصية، والحق في حرية التعبير والرأي.

سجل حقوق الإنسان في مصر تحت مجهر الأمم المتحدة

To view this video please enable JavaScript, and consider upgrading to a web browser that supports HTML5 video

مصير مشروع القانون الجديد في يد رئيس الجمهورية

بعد 16 يومًا فقط من بدء دور الانعقاد التشريعي السادس لمجلس النواب في أول أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، قرر رئيس المجلس حنفي الجبالي، رفع الجلسات العامة نهائيًا على ألا تعود إلا في “حالة الضرورة القصوى”، على الرغم من انتهاء جلسات الفصل التشريعي قانونيًا في 13 يناير/ كانون الثاني 2026.

قرار الجبالي جاء مدفوعًا بالسماح لنواب المجلس، خوض انتخابات البرلمان الجديد، والتي جرى فتح باب الترشح لها في 8 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، على أن تنطلق رسميًا في الداخل يومي 10، و11 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وهو ما يُشير إلى أن دور الانعقاد التشريعي السادس كان هدفه الأول النظر في مواد مشروع قانون الإجراءات الجنائية “الثماني” التي اعترض عليها رئيس الجمهورية في سبتمبر/ أيلول الماضي.

ويبقى مصير مشروع القانون الجديد في يد رئيس الجمهورية الآن بعد إحالته إليه للمرة الثانية للنظر في موقفه النهائي، ومن حقه الاعتراض عليه مرة أخرى طبقًا للمادة “123” من الدستور المصري أو التصديق عليه وإصداره، وفق ما يؤكده الدكتور محمد الذهبي، أستاذ القانون الدستوري في حديثه لـ DW.

ويقول الذهبي، إنه في حال تصديق الرئيس على المشروع، لن يتم العمل به إلا في أكتوبر/ تشرين الأول من العام المقبل 2026، طبقًا للمادة السادسة من مشروع قانون الإجراءات الجنائية، والتي جرى تعديلها بناءً على اعتراض الرئيس ذاته سابقًا.

وبشأن الطعن على القانون أو رفع دعوى بعدم دستوريته حال التصديق عليه، يشير الذهبي إلى شرط وجود قضية متداولة أولاً حول القانون أمام القضاء، حيث يكون للمحكمة القرار إما التقدير بعدم دستوريته وإحالة الدعوى إلى المحكمة الدستورية للفصل فيها أو رفض الدعوى.


Source link

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى